فصل: قال القنوجي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويحتمل أن يكون معنى الآية: إذا لم يمكنه الإنكار وخاف على نفسه إن أنكر.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية: 106.
قال قائلون: المراد بالآية ظاهرها، وهي الشهادة على الوصية في السفر، وأجازوا بهذا شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر، ورووا ذلك عن أبي موسى، وهو قول أبي موسى وقول الأوزاعي، وجعلوا هذا الحكم مخصوصا بالوصية عند حضور الموت، لوقوع الضرورة إليه، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات.
ويقوي ذلك أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما إنه لا منسوخ فيها.
ومتضمن هذا القول، أن يكون على الشاهد يمين، وأن يتعين إمضاؤه الشهادة لمكان اليمين مع الارتياب، وأنه إذا ظهر لوث من جهة الشهود، صارت يمين الورثة معارضة لشهادة الشهود، وأعظم منه أنه قال: {ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}.
وقال: {تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ}.
وظاهر ذلك رجوع حكم اليمين إلى النوعين اللذين أثبت التخيير فيهما، فيكون المسلم الشاهد محلفا على الشهادة على الوصية، وذلك بعيد.
وإذا ثبت ذلك فلابد من أحد نوعين:
إما التأويل وإما إثبات النسخ.
أما التأويل فغاية ما قيل فيه وجهان:
أحدهما ما روي عن الحسن، أن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره: إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، فاستشهدوا ذوي عدل منكم، يعني من العشيرة، فإنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان، أو آخران من غيركم، يعني من غير قبيلتكم، إن سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فيحلفان بعد العصر، فإن ظهر أنهما شهدا بالزور، ردّ ما شهدا به على الورثة، إذا حلف الآخران تجرح شهادة الأولين، وهو معنى قوله: {فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما}.
فقيل قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، خطاب للمؤمنين، فقوله تعالى: {مِنْكُمْ} أو {مِنْ غَيْرِكُمْ}، ضمير يقتضي انصرافا إلى المذكور قبله، لا للعشيرة. فكيف يجعل ضميرا عنها ولم يجد لها فيما تقدم ذكر، وهذا بين. لأن اليمين لا يتوجه لا على الشاهد من القبيلة ولا من غيرها.
والتأويل الثاني: ما نقل عن الشافعي، فإنه قال:
نزلت الآية في مسلم حضره الموت وأوصى إلى نصرانيين، وسلم المال إليهما، والقصة مشهورة، وذلك لا يجوز أن يكون بطريق الشهادة، فإن الموصى إليه كيف يشهد على فعل نفسه، وعلى أنه رد على جميع ما عنده، ولم يكتم شيئا.
وقد يسمى اليمين شهادة في قوله: {فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ}.
فقيل لهم: اليمين لا يختص بالعدل.
فأجابوا بأنه ذكر العدل احتياطا في الوصية، واتقاء لليمين الفاجرة، فقيل لهم: فما معنى قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما}.
فأجابوا بأن معنى ذلك ما ذكر في سبب النزول، وهو أنه وجدوا جاما من فضة مخوصة بذهب عند رجل، وكان الجام من جملة التركة، فلما طولب الرجل به ذكر أنه اشتراه من تميم الداري وعدي بن ندا، فلما روجعا في ذلك قالا: كان قد جعله الموصى لنا أو باعه منا.
وإذا كان كذلك، حلف الوارث لا المدعي لملك الجام، فهو معنى قوله: {فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا}.
أي يحلفان أن الشيء لهما وما اعتديا، وهذا مجمل، فهذا وجه التأويل.
فأما النوع الآخر وهو دعوى النسخ، والناسخ لابد من بيانه على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراضي الناسخ، وهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزلت وأن فيها: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ}، والكافر لا يجوز أن يكون مرضيا عند المسلمين.
وهذا لا يصلح أن يكون ناسخا عندنا، فإنه في قصة غير قصة الوصية، وأمكن تخصيص الوصية به لمكان الحاجة والضرورة، لأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم، ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما قاله ناسخ.
والنوع الثاني من الناسخ أبانه بعده عن الأصول في التفرقة في قبول الشهادة في السفر والحضر وتحليف الشاهد إلى غير ذلك من وجوه لا تخفى، وهذا الجنس لا يصلح ناسخا، وإنما يؤيد به التأويل بعد وجود التأويل.
وفي الآية دليل للشافعي على أن اليمين تتغلظ بالزمان والمكان.
واستدل الرازي به على قبول شهادة الكافر على الكافر، فقال: في ضمن شهادة الكافر على المسلم في الوصية قبولها على أهل ملته لا محالة، ثبت النسخ في بعض ذلك فبقي في البعض، وهذا ضعيف جدا، فإن الآية إذا تضمنت حكما وقد نسخ المذكور بعينه، فلا يتصور تقدير فرع له لم ينسخ وتعذر بقاؤه وهذا لا خفاء ببطلانه، فلم يطنب فيه. اهـ.

.قال القنوجي:

سورة المائدة مائة وعشرون آية.
قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع.
فائدة: قال أبو ميسرة: إن اللّه سبحانه، أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما، لم ينزلها في غيرها من سور القرآن، وهي قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} إلى قوله: {إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}. انتهى.

.[الآية الأولى]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: هذه الآية التي افتتح اللّه بها هذه السورة، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} (1) فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية، مع شمولها لأحكام عدة، منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل، ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وقد حكى النقاش: أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال:
واللّه ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته، وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا.
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}: يقال: أوفى ووفى، وقد جمع بينهما الشاعر فقال:
أمّا ابن طوف فقد أوفى بذمّته ** كما وفى بقلاص النّجم حاديها

والعقود: العهود، وأصل العقود الربط، وأحدها عقد، يقال: عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني- كما هنا- أفاد أنه شديد الإحكام، وقوي التوثيق.
وقيل: المراد بالعقود هي التي عقدها اللّه على عباده، وألزمهم بها من الأحكام.
وقيل: هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات، والأولى شمول الآية للأمرين جميعا، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض.
قال الزجاج: أوفوا بعقد اللّه عليكم، أو بعقدكم بعضكم على بعض. انتهى.
والعقد الذي يجب الوفاء به، ما وافق كتاب اللّه وسنة رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فإن خالفهما فهو رد، لا يجب الوفاء به، ولا يحل.
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} البهيمة: اسم لكل ذي أربع، سمّيت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم، أي مغلق، وليل بهيم، وبهيمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة لا يدرى أين طرفاها.
والأنعام: اسم للإبل والبقر والغنم، سمّيت بذلك لما في مشيها من اللين.
وقيل: بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء، وبقر الوحش، والحمير الوحشية، وغير ذلك. حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك.
قال ابن عطية: وهذا قول حسن! وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما يضاف إليها من سائر الحيوانات، يقال له: أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس- كالأسد وكل ذي ناب- خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي ذوات الأربع.
وقيل: بهيمة الأنعام ما لم يكن صيدا لأن الصيد يسمى وحشيا لا بهيمة.
وقيل: بهيمة الأنعام الأجنّة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة.
وعلى القول الأول- أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم- تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً...} الآية [الأنعام: 145].
وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «يحرم كل ذي ناب من السبع، ومخلب من الطير»، فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع، كما في كتب السنة المطهرة.
{إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ}: استثناء من قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال.
والمتلوّ: هو ما نص اللّه على تحريمه، نحو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...} الآية [المائدة: 3]، وذلك عشرة أشياء، أولها الميتة، وآخرها المذبوح على النّصب، ويلحق به ما صرحت السّنة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به، إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعا.
{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ}: ذهب البصريون إلى أن قوله هذا استثناء آخر من قوله: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم، إلا الصيد وأنتم محرمون، وقيل الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والثاني من الاستثناء الأول.
وردّ بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام لأنه مستثنى من المحظور، فيكون مباحا.
{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: في محل نصب على الحال، ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية، التي يحل أكلها كأنه قال: أحل لكم صيد البر، إلا في حال الإحرام.
وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى: أحلت لكم بهيمة هي الأنعام- حل تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام- لكونكم محتاجين إلى ذلك. فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال.
والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما، ويسمى محرما لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرام حراما، والإحرام إحراما.

.[الآية الثانية]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ}: جمع شعيرة، على وزن فعلية.
قال ابن الفارس: ويقال للواحدة شعارة وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي.